من روائع القوافي..قلب الأمومة
* فاضلي محمد يزيد
"الأمومة"..يابسمةزاهرة من الرحمة والحنان في وجه الوجود. "الأمومة"..يا عبق الحياة في درب العمر المحدود..!. "الأمومة"..يا واحة الولد التعوب في معترك الأيام.. "الأمومة"..يا أنشودة،صيغت تراتيلها على لحن الوداد..والحب..والصفاء..والتصحية
لعل مما اتفقت عليه الإنسانية-قديماوحديثا-أن عاطفة الأمومة،من أقوى العلائق الوثيقة التي توطد روابط الإنسان في نسيجه الاجتماعي والأسري،إن لم تكن أقواها وأوثقها على الأطلاق إلى جانب الأبوة والبنوة والأخوة... ولو قلبنا النظر في مجموع التراث الإنساني الأدبي،فلن يعوزناالنظرأن نجد ثراء عريضا وزخما غزيرا يكشفان عن "قدسية" هذه الوشيجة البشرية السامية،التي أودعها الله-عزوجل- جبلة الإنسان وفطرته السوية.
فلاغرو إذن إن فتحنا بطون كثير من المتون والدواوين والروايات والقصص،لنجدأنفسناأمام روائع من منثورات الأدب الإنساني الرفيع،التي استودع فيهاأصحابها أرق وأجمل وأنصع ما نضحت قرائحهم المفعمة في الأم والأمومة..يستوي في ذلك القدماء والمحدثون،الأسلاف والأخلاف،العرب والعجم،المسلمون ومن خالفهم... وإني لأغمض عيني اللحظة لتسبح بي الذكريات القهقرى،فأفتحها على فجر العمر وبواكير الصبا،أيام كنا تلامذة ننتظم في فصول التعليم الابتدائي الأول.وإن كنت سأنسى،فلن أنسى ماحييت طلعة معلمي-أمدالله في عمره وبارك له عطاءه-حين كان يطلب منا أداء تلك المحفوظة الرقيقة،الشفيفة،البديعة،الرنانة..فنقف مصطفين في براءة لاتخلو من رقة..وبترنيمة جماعية نشدوا: أحب الناس لي أمي ومن بالروح تفديني فكم من ليلة قامت على مهدي تغطيني... -ألا ماأجلها نفحات وأروعها لحظات لو تعود..!!
ثم لما زحف درب العمر إلى نصارة الشباب،اكتحلت العين-يا ما-بروائع أدبية أخرى عن الأم والأمومة،ولطالما اهتز لها خافقي وانثالت مشاعري تذوب رقة وشجنا وعذوبة ودفئا أمام معانيها العبقة ومجازاتها الأخاذة ومدلولاتها الحكيمة..ولطالما وجدت صداها الحاني في كياني وحشاشتي... فمن قصيد الشاعر علي الجنبلاطي"ذقت الحياة على يديك.."،إلى تلك المقطوعة(الطقطوقة)،التي كانت تلك الأعرابية تناغي بها صغيرها: يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد أهكذا كل الولد؟؟؟ أم لم يلد مثلي أحد؟؟!!.
إلى رائعة السيدة الأديبة عائشة هانم تيمور الرثائية: أماه قد كل الطبيب وفاتني مما أؤمل في الحياة نصير أماه قد عز اللفاء وفي غد سترين نعشي كالعروس يسير!!. مرورا إلى روائع ماكتب جبران ومي والرافعي ونزار وجيته وطاغور ولافونتين و...و...وانتهاءبغيرهم وهم كثر. إنه زخم من المشاعر الإنسانية الدافئة تصور الأمومة بأروع فكرة وأنبل سجية وأعذب أسلوب. بيد أني الساعة أود عرض رائعة شعرية بعينها-بين كل تلك الروائع-لم أجد لها نظيرا في فحواها ولا في عبقرية الصياغة التي قولب بها صاحبها مغزى فكرتها..وأصدقكم القول-أحبتي القراء-أن قشعريرة من الوجد والشجن عرتني حين وقعت في يدي ورحت أتملى قافيتها!!!
والذي أعرفه عن نفسي أنه لايأسرها شيء من سحر القول-بعدكلام الله تعالى وكلام مصطفاه صلوات ربي وسلامه عليه-مثل هذه الروائع الفريدة،بصرف النظر عن نسب أصحابها أو مضانهم الأدبية.... لقد كان لها-وما يزال-وقع خاص في الوجدان لايعدله في التأثير إلا روعة الفكرة والصياغة والمجاز و "السيمياوية" والعبرة التي نسجت بها..!!. وصدقوني-أحبتي-إن همست لكم،بأن الذي قرأته في فراءاتي المتواضعة عن الأمومة في "كوم" ، وهذه الرائعة الشعرية في "كوم" آخر...!!!،
هذا على الأقل في تقديري المتواضع،ومن زاويتي الأدبية والفنية التي لاألزم بها أحد. وقبل عرضها،أحب أن أتجاوز على عجل وجه الخلاف الهادىء الذي أثاره بعص النقاد عن نسب القصيدة و صاحبها.فهناك من يعزوها إلى الأدب الأجنبي المترجم عن الشاعر الفرنسي الكبير"ألفونسو لامارتين" ،وهناك من قال غير ذلك..وعندي أن الأمر سيان أن تنسب إلى زيد من الناس أو عمرو،المهم هو فكرة القصيدة البديعة ومبناها ومعناها،والعبرة منها..المهم أن تعيش معي -قارئي الكريم-روعة التصوير وجلال العبرة المبثوثين بين ثناياها. وسياق القصيدة، يشير إلى حكاية غلام غر اضطرته لأواء الحياة وضنكها،أن يمزق صدر أمه الرؤوم ليبيع قلبها الدافىء مقابل عرض زهيد..!!!وفي عز المأساة المجازية،نطق القلب الجريح،فكان ما كان..!!!
وحتى لا أطيل عليك-أخي القارى،أختي القارئة-أطلب منك إعمال بصيرتك وحسك الأدبي الرهيف وأنت تقرأ،ثم بعد لأي قرر ماترى.... -جاء في القصيدة: أغرى امرؤ يوما غلاما جاهلا بنقوده حتى ينال به الوطر قال:ائتني بفؤاد أمك يافتى ولك الجواهر والدراهم والدرر فمضى وأغرز خنجرا في صدرها والقلب أخرجه وعاد على الأثر لكنه من فرط سرعته هوى فتدحرج القلب المعفر إذعثر ناداه قلب الأم وهو معفر: ولدي حبيبي هل أصابك من خطر..؟؟!!!
فكان هذا الصوت رغم حنوه غضب السماء على الغلام قد انهمر وارتدنحوالقلب يغسله بما فاضت به عيناه من سيل العبر ويقول:ياقلب انتقم مني ولا تغفر فإن جريمتي لاتغتفر وكفى بذاك جنايةلم يجنها سواه منذ تاريخ البشر واستل خنجره ليطعن نفسه طعنا فيبقى عبرةلمن اعتبر ناداه قلب الأم:كف يدا ولا تطعن فؤادي مرتين على الأثر...!!!!.
** أستاذ في اللغة العربية وآدابها ـ الجزائر
الثلاثاء يوليو 07, 2009 12:51 am من طرف محبة الخير للغير