صور الوسوسة وأشكالها:
إن المعركة بين الشيطان والإنسان يجرى على مستوى الخواطر والإرادات، وسلاحه في ذلك الوسوسة، منذ الخليقة الأولى وإلى اليوم، قال الله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف]
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء ناسٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إليه، فسألوه: إنَّا نَجدُ في أنفسنا ما يتعاظَمُ أحدُنا أن يتكلَّم به؟ قال: «وقد وجَدتُموه؟» قالوا: نعم، قال: «ذاك صَريحُ الإيمان» أخرجه مسلم، وعند أحمد وأبي داود «الحمد لله الذي ردَّ كيدَهُ إلى الوسوسة».
وتأخذ وسوسة الشيطان للإنسان أشكالاً وصوراً متعددة، منها:
المس: وتنطمس معه البصيرة، فيفقد المرء ميزان التفرقة بين الحق والباطل وبين الخطأ والصواب، والعلاج في مثل هذه الحالة الاستعاذة بالله والتذكر لغضبه، قال الله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف]
أي: إذا وسوس لهم الشيطان وجرَّأهم على ما لا يحل، استعاذوا بالله وتذكَّروا غضبه في اليوم الآخر، فأمسكوا، فاذا هم مبصرون لمواضع الخطأ بالتفكر.
الإيحاء: وهو إيصال رسالة خفية سريعة {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]
وتزيين العمل: كما جاء على لسان الهدهد، وهو يصف ما عليه ملكة سبأ وقومها: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24]
كذلك{وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]
الاستحواذ: وهو الغلبة والاستيلاء على العقول والقلوب، وعندئذ يتمحض المرء للشر، ويصبح قرين الشيطان {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]
أنواع الانحرافات النفسية (مداخل الشيطان):
تتنوع الانحرافات النفسية إلى نوعين رئيسين: انحرافات باطنة، وتسمى (باطن الإثم) أو (مداخل الشيطان) منها: الكِبْر والعُجْب والغرور، والحِقْد والحسد والرياء، والشك وسوء الظن، والأمن من مكر الله، واليأس من رحمة الله، وغيرها.
وانحرافات ظاهرة، وهي الذنوب الظاهرة، مثل:والربا والغش والرشوة والسرقة والغصب، والظلم والقتل والسب والشتم والكذب والتجسس، وتناول المضرات كشرب الخمور والمخدرات والتدخين، والزنا واللواط، وعقوق الوالدين وإيذاء الجار، والغيبة والنميمة والهمز واللمز، وغير ذلك كثير.
وقد حرم الإسلام كلا النوعين من الانحرافات، قال الله تعالى: { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120]
مبدأ الانحرافات النفسية (لمة الشيطان):
نتيجة للمثيرات الداخلية والخارجية يتعرض الإنسان لنوعين من الخواطر والأفكار، الأول: خواطر تحرك الرغبة في الخير، وتدفع إلى الاستقامة. والآخر: خواطر تحرك الرغبة في الشر، وتدفع إلى الانحراف.
والخواطر والأفكار الشيطانية تعد أساساً وأصلاً لكل الانحرافات الباطنة والظاهرة، قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس]أي أفلح من كبَّرها وكثَّرها ونمَّاها بطاعة الله، وخاب من صغَّرها وحقَّرها بمعصية الله.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «إنَّ للشَّيْطانِ لَمَّة بابْنِ آدَمَ ولِلْمَلَكِ لَمَّة، فأَمَّا لَمَّةُ الشيطانِ فإيعادٌ بالشَّرِّ، وتكذيبٌ بالحق. وأمَّا لَمَّةُ الملَكِ فإيعادٌ بالخَير، وتصديقٌ بالحق. فمن وجد ذلك فلْيعْلَم أنَّه من الله فيحْمَدُ الله، ومَن وجد الأخرى فَلْيَتَعَوَّذْ بالله من الشيطان الرجيم» [الترمذي وقال: حسن غريب، والنسائي في الكبرى، وابن حبان في صحيحه]
ويحدد ابن قيم بوضوح في كتابه (الفوائد، ص 252 وما بعدها. وقبل علماء النفس) أن بداية السلوك خاطرٌ، وأن ردَّ الخواطر من بدايتها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها، فيقول:
«مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها...
«ومعلوم أنه لم يعطَ الإنسانُ إماتةَ الخواطر، ولا القوة على قطعها؛ فإنها تهجم عليه هجوم النَّفَس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه...
«فإذا دفعتَ الخاطرَ الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلتَه صار فكراً جوالاً، فاستخدمَ الإرادةَ، فتساعدتْ هي والفكر على استخدام الجوارح، فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب بالمنى والشهوة وتَوَجُّهِه إلى جهة المراد، ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد».
كما يبين أن الله سبحانه خلق النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فقول (الفوائد: ص 256):
«وإياك أن تمكِّن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك؛ فإنه يُفسِدها عليك فساداً يصعب تدراكُه، ويلقي إليك أنواعَ الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنْتَه على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك، فمثالك معه مثال صاحب رحىً يطحن فيها جيدَ الحبوب، فأتاه شخص معه حِمْل تراب وبَعْر وفحم وغُثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكِّنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه، وإن مكنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحينُ كلُّه فاسداً».
خبطة الشيطان (الصراع النفسي):
فكل سلوك إنساني إرادي هو في النهاية استجابة لإلهام أو وسوسة. والإسلام قدم المعيار الذي به يعرف كلا النوعين من الخواطر، بما بين من الفرق بين الحق والباطل في العقائد والأفكار والطيب والخبيث في المأكل والمشرب والملبس، والحلال والحرام في وسائل الكسب، والمعروف والمنكر في الأقوال والأعمال. ومعظم المسلمين اليوم يعانون من فقر في الوعي الديني الذي يمكنهم من التمييز بين تلك الثنائيات، فيقعون نتيجة لذلك ضحايا للصراع النفسي، من قلق وشرود وضلال {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]
فالصراع النفسي: هو أن تدفع خاطرةٌ المرءَ إلى اتجاه معين، وتدفعه خاطرة أخرى إلى اتجاه مضاد، فيحس بينهما بحالة من الحيرة والاضطراب والتردد والعجز عن اتخاذ قرار في ترجيح أحد الاتجاهين. وقد وصف القرآن وصفاً دقيقاً حالة الصراع النفسي وما تسببه للفرد من حيرة وتردد، فالشياطين من جهة تستهويه وتجذبه إلى ناحية الكفر والضلال، والمؤمنون يدعونه من جهة أخرى إلى الهدى والضلال، فيقف المسكين حيران عاجزاً عن اتخاذ القرار {...كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] فالقرآن لم يتركه في تلك الحيرة والتردد، بل حسم القضية، وقدم الحل لهذا الصراع الذي طالما شقي به صاحبه: { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}
وقد كان المنافقون يعانون حالة الحيرة والريبة والاضطراب التي تصاحب الصراع النفسي بين الكفر والإيمان، وقد أشارت إلى ذلك آيات التوبة عندما جاؤوا بأعذار كاذبة للتخلف عن الخروج للجهاد {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} {التوبة: 45}
وقد كان هذا الصراع وهذه الحيرة التردد من صفاتهم الثابتة في كل موقف: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء]
ويصف القرآن أيضاً حالة الصراع النفسي التي يعانيها بعض الأفراد، الذين يقفون موقف الحيرة والتردد بين أن يقاتلوا المسلمين من جهة، وأن يقتلوا قومهم من المشركين من جهة أخرى، وما سببه هذا الصراع من حيرة وضيق وحرج، فاستثناهم الله تعالى من الأمر بقاتلهم:{إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ...} [النساء: 90]
دوائر الوسوسة وميادينها:
معركة الشيطان مع الإنسان معركة متجددة، تتجدد مع كل فرد من أفراد الجنس البشري، قال تعالى: {أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة] ولهذه المعركة ثلاثة ميادين أو دوائر:
الدائرة الأولى: دائرة العمل الصالح وفعل الخير، وفيه يكون موضوع الوسوسة الصد عن فعل الخير، وتزيين فعل الشر، {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة]
والحكمة هنا: هي وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وهي تمييز خواطر الخير عن خواطر الشر والسوء، والاستجابة للأولى والإعراض عن الثانية. فإذا انتصر العبد على الشيطان في هذا المجال، بما في قلبه من علم النبوة، فأبصر الخير والشر، واستجاب لداعي الخير، انتقلت المعركة إلى الدائرة الثانية.
الدائرة الثانية: وهي دائرة النيات {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً}[الكهف: 110] والعمل لا يكون صالحاً إلا بشرطين، الأول: أنْ يَكُونَ خَالِصاً للهِ تعالى. والآخر: أنْ يَكُونَ صَوَاباً مُوافِقاً لِلْشَرْعِ الذِي شَرَعَهُ اللهُ.
وموضوع الوسوسة هو إفساد النية في الخير الذي عزم على فعله، وذلك بإدخال بعض الانحرافات الباطنة أو الظاهرة التي تفسد ثواب عمله، كالشرك والرياء والعجب أو المن والأذى، فإذا انتصر الإنسان في هذا المجال بلزوم الإخلاص لله تعالى في القصد والنية فهو على موعد مع الدائرة الثالثة.
الدائرة الثالثة: وفي هذه الدائرة يهاجمه الشيطان بسيل من نوع جديد من الخواطر، تغريه بالانحرافات الظاهرة من ظلم وسرقة واعتداء وأكل لأموال الناس، فهي اعتداء على حقوق الآخرين، مع أنه ظاهر الصلاح يؤدي حقوق الله، فتضيع حسناته في الآخرة، وتذهب في رد المظالم والحقوق، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» [مسلم والترمذي وأحمد]
هذه هي ميادين معركة الإنسان مع الشيطان، وساحتها القلب، وسلاحها الخواطر والوساوس، ولم يجعل الله تعالى له سلطاناً على القلب أكثر من هذا { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ...} [إبراهيم: 22]
الوقاية والعلاج:
1- أن يكون المسلم على فقه ووعي كافٍ بأمور الدين، من حق وباطل، وحلال وحرام، وحقوق وواجبات، حتى لا تختلط مقاصد الشرع ومطالبه بأهواء النفس وتمنياتها، وتزيينات الشياطين، وفي الحديث المتفق عليه « مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»ألم يقسم إبليس لآدم وحواء - عليهما السلام - على صدقه في نصحه؟ {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] ويقول البوصيري في (البردة) في هذا المعنى:
وخالف النفس والشيطان واعصهما.... وإن هما محاضك النصح فاتهم
2- أن يدخل المؤمن في الإسلام بكل كيانه، بالعقل والقلب والجسم، بالنيات والأعمال، بالأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، في السر والعلن. والمؤمن حين يستجيب هذه الاستجابة لله تعالى يعيش في سلام مع النفس وسلام مع الآخرين؛ فلا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]
3- أن لا يغيب عن وعي المسلم أن له عدواً غير مرئي، متربص به، لا يغيب عنه لحظة: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]
4- أن يستعيذ المسلم بالله من وساوس الشياطين المغرية على خلاف ما أمر به، أو أي أن يحضروه في أي شيء من أمره، لأنهم لا تنفع معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون] (الهمز: النخس بيد أو غيرها)
أخرج الدار قطني عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه – قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- َإِذَا تَعَوَّذَ قَالَ «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَمْزِ الشَّيْطَانِ وَنَفْخِهِ وَنَفَثِهِ».
5- عدم إخراج الخواطر إلى حيز الفعل قبل التحقق من نوعها، وذلك بعرضها على الشرع، من الكتاب والسنة: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
6- أن يختار البيئة المساعدة، لأن القدوة الحاضرة مؤثرة بالخير والشر { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان].
7- ملء الوقت بأعمال البر والتقوى،؛ لاجتناب أعمال الإثم والعدوان؛ لأن النفس الإنسانية كالرحى الدائرة، لا بد أن تطحن شيئاً، كما سبق القول.
*** *** ***
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) النور) ويأمر بالسوء والفحشاء ويعد الانسان بالفقر (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) البقرة) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169))