بسم الله الرحمن الرحيم
وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ...
الصفــــــــ الأولى للمتقين ـــــــــــــة
الصفة الأولى للمتقين - في كتاب الله - أنهم يؤمنون بالغيب، ومنه الإيمان بالجن والشياطين، فهي عقيدة ثابتة بنصوص الكتاب والسنة، وفي إنكارها خروج عن الملة؛ لأنه إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة.
الذي دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع التنافس المحموم بين كثير المسلمين، وسيطرة الروح المادية على تفكيرهم، وعلى طريقة عيشهم في الحياة، فغدا التكاثر بالأموال شغلهم الشاغل، الذي لا يفارق خيالهم في يقظة ولا منام.
هذا التنافس أو التكاثر إنما سببه النسيان والغفلة التي تسلل منها الشيطان إلى قلوب البعض فأنساهم الله واليوم الآخر وما فيه جزاء بالثواب أو العقاب، وأنساهم الناس وما لهم من حقوق، بل وأنساهم حتى أنفسهم؛ لهذا ولغيره أحببت أن أذكر بهذا العدو الغائب الحاضر، عسى أن يعيد أولئك الغافلون حساباته فيعودوا إلى رشدهم إذا كان قد بقي لديهم رشد أو بقية من لب {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19]
عداوة الشيطان للإنسان (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ):
العلاقة بين الإنسان والشيطان علاقة عداوة قديمة، بدأها الشيطان منذ أن رد أمر الله تعالى استكباراً، وأبى أن يسجد لآدم، وفيما يلي قصة آدم، وهي قصة البشرية جميعاً، كانت تجربتها الأولى في الجنة، وهي تستمر كذلك على الأرض، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {طه}
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}وعهد الله إلى آدم كان هو أن يأكل من كل ثمار الجنة سوى شجرة واحدة، تمثل المحظور الذي لا بد منه لتربية الإرادة، وتأكيد الشخصية، والتحرر من رغائب النفس وشهواتها، فلا تستعبدها وتقهرها.
وهذا هو المقياس الذي لا يخطئ في قياس الرقي البشري. فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سلم الرقي البشري.
{فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} فالشقاء بالكد والعمل والشرود والضلال والقلق والحيرة واللهفة والانتظار والألم والفقدان.
{إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} فالجوع والعري، يتقابلان مع الظمأ والضحوة، وهي في مجموعها تمثل متاعب الإنسان الأولى في الحصول على الطعام، والكساء، والشراب، والظلال.
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ: قَالَ: يَا آدَمُ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى؟} الإنسان ضعيف بفطرته، يحب الحياة الطويلة والملك الواسع المديد، ومن هاتين النفذتين دخل إليه الشيطان ووسوس.
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} وبذلك أعلنت الخصومة في الثقلين، فلم يعد هناك عذر لآدم وبنيه من بعده أن يقول أحد منهم إنما أخذت على غرة ومن حيث لا أدري.
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} فاتباع هدى الله تعالى أمان من الضلال والشقاء.. والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقاً في المتاع، وما من متاع حرام إلا وله غصة تعقبه وعقابيل تتبعه.. وما يضل الإنسان عن هدى الله إلا ويتخبط في القلق والحيرة، والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف، لا يستقر ولا يتوازن في خطاه.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} فالحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة ضنك، مهما يكن فيها من سعة ومتاع. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه. ضنك الحيرة والقلق والشك. ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت.. ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت. هذه في الدنيا أما عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى.
وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولاً وعرضاً وعمقاً وسعة، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان.
الشيطان يعلن الحرب على الإنسان (وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ):
لقد قطع الشيطان العهد أمام الله تعالى على أن يستمر في عداوته لبني آدم إلى يوم يبعثون، وأن يحاربهم بكل وسيلة من وسائل الإغراء والإغواء، وقد أبلغنا اللهُ تعالى تهديده ووعيده، وما خبأه لنا من خطط وأساليب، فلا عذر لمعتذر:
فقد توعد ذرية آدم بالقعود لهم على الصراط المستقيم، ليصدهم عن الهدى ودين الحق، وإنه سيأتيهم من كل جهة للحيلولة بينهم وبين الإيمان والطاعة: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف]
وتوعدهم بأن يزين لهم في الأرض كل قبيح، ثم الإغراء – بزينته المصطنعة – على ارتكابه، فالإنسان لا يرتكب الشر إلا وعليه من الشيطان مسحة تزينه وتجمله، (اشتهى رجل لحم حماره، فقال: ما أشبه أذنيه باذني الأرنب) فليفطن الناس إلى عدة الشيطان؛ وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزييناً، وكلما وجدوا من نفوسهم إليه اشتهاء. ليحذروا فقد يكون الشيطان هناك: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر]
وتوعدهم بأن يستولي عليهم، ويحتويهم، ويملك زمامهم فيقودهم إلى حيث يريد، كما يقود الرجل الدابة بالرسن في حنكها، ليكونوا حطباً لجهنم: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [الإسراء]
إنها معركة صاخبة، تستخدم فيها الأصوات والخيل والمشاة على طريقة المعارك والمبارزات. أما المشاركة في الأموال والأولاد فتتمثل في كل مال يجبى من حرام، أو يتصرف فيه بغير حق، أو ينفق في إثم. وفي كل ولد يجيء من حرام، ففيه شركة للشيطان. فهي شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة.
وتوعد بإضلال فريق من بني آدم وتمنيتهم بالأماني الكاذبة عن طريق الغواية، من لذة كاذبة، وسعادة موهومة: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء]
صور الوسوسة وأشكالها:........................... يتبع